بالرغم من الصفحات التي ملأتها سوادا الادارة البريطانية خلال فترة تقرير المصير وبالرغم من المؤامرات الرخيصة وعمليات القهر والتزييف التي مارستها اثيوبيا ــ بالرغم من كل ذلك فإن مرحلة تقرير المصير تتضمن صفحات مشرقة ومواقف مجيدة للحركة الوطنية الارترية . كانت قيادات الحركة الوطنية تعي تماما جسامة المسؤولية التي أمامها وتعرف ابعاد التحديات التي تواجهها كما كانت تدرك تماما سلبيات الواقع الارتري وتناقضاته خاصة التناقض الطائفي حيث ينقسم الارتريون إلى مسلمين ومسيحيين بصورة متساوية تقريباً . لذا فأن (السلاح) الفعال الذي لجأ اليه قادة الحركة الوطنية الارترية منذ البداية كان سلاح (الوحدة) لتجاوز الانقسام الداخلي من جهة ولمواجهة التحديات الخارجية من جهة ثانية ــ ولعل مما يزيد من مأساة الشعب الارتري انه اليوم وبعد مرور أكثر من اربعين عاما ما زال يواجه نفس التحدي ومطلوب منه استخدام نفس السلاح ــ الوحدة الوطنية .
ففي عام 1938 تكون أول تجمع وطني يضم المسلمين والمسيحيين في العاصمة اسمرا وكانت قيادة هذا التجمع تتكون من عدد متساو من المسلمين والمسيحيين (12 شخصا من كل طائفة) واطلق على التجمع أسم (جمعية حب الوطن) (محبر فقري هقر).
ورغم الصعوبات السياسية والاجتماعية والتعقيدات الثقافية والدينية استطاعت الجمعية ان تحقق نجاحات ملموسة خاصة في مجال إلغاء الحواجز المصطنعة بين المسلمين والمسيحيين .
فمثلاً في اطار محاربة فكرة تحريم ذبيحة المسلم على المسيحي والعكس (وقد كانت سائدة في ارتريا) قامت قيادة الجمعية ـــ بتناول وليمتين احداهما في منزل مسلم والأخرى في بيت مسيحي ، وبمرور الوقت استطاعت جمعية حب الوطن أن تفرض نفسها كحركة سياسية واجتماعية تنادي بوحدة الارتريين وحقهم في الاستقلال الوطني . وفي عام 1943 ــ نجحت الجمعية في الغاء قانون التمييز العنصري الذي فرضته السلطات الايطالية كما ساهمت الجمعية كذلك في نشر التعليم الأهلي .
ولكن بعد أن تبلورت أهداف الجمعية السياسية بوضوح بدأت اثيوبيا تحركها لإجهاض الجمعية حيث قام كل من (اسفها ولد ميكائيل) ولورتر وتأزاز بالضغط على قيادات جمعية حب الوطن وممارسة الاغراء تارة والتهديد تارة اخرى لتغيير مواقفهم . وقد حدث الانشقاق اخيرا في اجتماع (بيت جرجيس) الشهير في اسمرا حيث نادى بعض زعماء الجمعية بالوحدة مع اثيوبيا في حين تصدى لهم زعماء وطنيون آخرون منهم عبدالقادر كبيري وابراهيم سلطان وحقوس أبره .
وفي 28/8/1946 وبتشجيع من بريطانيا شهدت العاصمة اسمرا فتنة طائفية كبرى راح ضحيتها أكثر من خمسين مواطنا ولكن سرعان ما تنادى زعماء الحركة الوطنية من مسلمين ومسيحيين لإخماد الفتنة وبالفعل حدث تحرك مشترك واعتبر القتلى شهداء للوطن ووضع كل من مفتي المسلمين وبطريرك المسيحيين أكاليل الزهور على قبور الضحايا .
وعند هذا الحد وصلت جمعية حب الوطن إلى طريق مسدود وانشق بعض الزعماء وانضموا إلى حزب الوحدة في عام 1946 . في حين بدأ الزعماء الوطنيون الآخرون بإنشاء احزاب جديدة .
الاحزاب السياسية :
- حزب الرابطة الاسلامية .
تأسس في 4/12/1946 برئاسة السيد بابكر عثمان الميرغني وأصبح الشيخ ابراهيم سلطان علي سكرتيرا عاما لها واتخذت الرابطة من مدينة (كرن) مقرا لها . وأهم أهداف الرابطة كانت الدعوة إلى وحدة ارتريا واستقلالها الفوري واذا تعذر ذلك قبول الوصاية البريطانية لمدة عشر سنوات تمنح ارتريا بعدها الاستقلال ولكن في فترة لاحقة تنازلت الرابطة عن الاقتراح الثاني بعد ان رأت مناورات بريطانيا واكتفت بالمطالبة بوصاية الأمم المتحدة اذا تعذر الاستقلال الفوري .
كان جميع اعضاء الرابطة من المسلمين ومراكز نشاطها المناطق الاسلامية ــ كرن ــ اغردات ــ مصوع ــ تسني ــ عصب ــ وبالطبع في اسمرا العاصمة بحكم كونها عاصمة وطنية فيها جميع الفئات .
- الحزب التقدمي الحر (أو حزب الاحرار التقدمي) .
تأسس في فبراير 1947 وجعل مدينة (عدي قّيح) مقرا له وكان يدعو إلى وحدة واستقلال ارتريا بعد فترة وصاية من الأمم المتحدة . والملاحظ أن برنامج الحزبين (التقدمي الحر والرابطة الاسلامية) كان متطابقا . والفرق الوحيد كان في القاعدة التي يستند عليها كل من الحزبين . ففي حين كانت قاعدة الرابطة من المسلمين كان معظم قاعدة الحزب التقدمي الحر من المسيحيين وكان رئيسه (دجزماش ابرها تسما) .
وكان الحزبان (الرابطة الاسلامية والتقدمي الحر) هما التنظيمان الوحيدان اللذان تأسسا بمبادرات وجهود إرترية خالصة ولذا لم يكن غريبا ان تنطلق أهدافهما من (ارتريا) وتصب فيها .
- الاحزاب الموالية لإيطاليا :
قامت ايطاليا بتأسيس حزبها الكبير (بروايتاليا) عام 1947 ولكنها قامت بعد ذلك بتكوين عدة جمعيات ولجان لنفس الغرض وهو استمرار الوصاية الايطالية دون شروط . والحزب الموالي لايطاليا ( وهذا اسمه) كان يتكون من مسلمين ومسيحيين ارتبطت مصالهم بإيطاليا وتشبعت افكارهم بالثقافة الايطالية .
وفي نفس العام 1947 تكونت رابطة المحاربين القدماء الارترية من الجنود الارتريين (مسلمين ومسيحيين) الذي كانوا في خدمة الجيش الايطالي . وهذه الرابطة كانت مطالبها بالدرجة الأولى اجتماعية واقتصادية للمطالبة بحقوق الجنود ولكنها فيما بعد تبنت شعارات سياسية بإيعاز من ايطاليا . كذلك تم تأسيس (الرابطة الايطالية الارترية) من قدماء المهاجرين الايطاليين والمولودين الارتريين من آباء ايطاليين وأمهات ارتريات .
والغريب انه إلى جانب ذلك كله كانت الاحزاب الايطالية الأصلية والتي تمارس نشاطاتها في ايطاليا تتحرك ايضا من خلال فروعها في ارتريا مثل الحزب الشيوعي الايطالي ــ الاشتراكي ــ الليبرالي ــ الجمهوري ــ الديمقراطي المسيحي ــ والعمال الديمقراطي والعمال الاشتراكي . وجميعها كانت تطالب بالوصاية الايطالية على ارتريا . وفي مرحلة لاحقة عندما ايقنت ايطالية بانها خسرت المعركة أمام اثيوبيا في تحديد مصير ارتريا طالبت ــ ايطاليا باستقلال ارتريا وانضمت بعض المنظمات التي كانت موالية لها إلى (الكتلة الاستقلالية) الارترية التي كانت تطالب باستقلال ارتريا .
- حزب الوحدة:
تأسس في 5/5/1941 ولكنه اتخذ شكله الرسمي والفعال بعد انضمام بعض قيادات جمعية حب الوطن اليه عام 1946 . وكان مقره في اسمرا وسكرتيرة العام (تدلا بايرو) وأهدافه تتخلص في المطالبة بالوحدة مع اثيوبيا وكان يتمتع بالتأييد المادي من الحركة الاثيوبية والكنيسة القبطية .
انجازات الحركة الوطنية :
ولم تقبل اثيوبيا ولا بريطانيا بنشاطات الرابطة الاسلامية والحزب التقدمي الحر حيث بدأت ضد الحزبين مؤامرات انتهت بشق صفوف الرابطة الاسلامية وانشقاق كل من (الحزب الوطني الاسلامي ــ مصوع) وحزب الرابطة في الاقليم الغربي بقيادة (علي رادآي) عن التنظيم الام وتعرض التقدمي الحر كذلك إلى تخريب وانشقاق من داخله . ولكن الحزبين لم يستسلما للضغوط والتهديدات بل واجها ذلك كله بخلق جبهة ضمت الرابطة الاسلامية والحزب التقدمي الحر ثم انضمت اليهما تجمعات وطنية اخرى وبالنتيجة تكونت (الكتلة الاستقلالية) والتي حددت هدفها بالدعوى إلى الاستقلال التام لأرتريا مع احتفاظ كل حزب بكيانه المستقل . واستطاعت الحركة الوطنية ممثلة بالكتلة الاستقلالية أن تحقق منجزات تعتبر تاريخية واتباعهما بالإضافة الى بريطانيا واتباعها ايضاً) والفترة الزمنية القصيرة 1946 ــ 1952 التي ناضلت خلالها الحركة الوطنية بالإضافة إلى التعقيد الدولي الذي صاحب القضية الارترية . ويمكن أن نلخص منجزات الحركة الوطنية الارترية في :
أولاً :حافظت على أرتريا ارضاً وشعباً وكانت تنادي دائماً في الداخل والخارج بان أرتريا غير قابلة للتجزئة . أن ثمار ذلك التحرك الذي مثل مبكرا بمركزية الوحدة الوطنية كهدف من أهداف النضال الوطني الارتري كانت له نتائجه العملية في تغذية الوعي الوطني وتفجير الكفاح المسلح عام 1961 .
ثانياً : واجهت الحركة الوطنية الارترية مؤامرات اثيوبيا وتهديداتها ولم تتردد تلك القيادات في تقديم التضحيات تمسكا بالمبادئ ولعل استشهاد الزعيم الوطني (عبدالقادر كبيري) على أيدي عصابات اثيوبيا قبل سفره إلى الأمم المتحدة خير دليل على ما كانت تواجهه قيادات الحركة الوطنية من إرهاب .
ثالثاً : نجحت الحركة الوطنية في اعطاء الصراع الارتري . الاثيوبي طابعا دوليا الأمر الذي لا يزال يزعج اثيوبيا حتى اليوم لأنها ضمت ارتريا من جانب واحد واحتمال اثارة القضية مرة ثانية في الأمم المتحدة مسألة محتملة خاصة في تصاعد الثورة المسلحة . في خطاب سكرتير الرابطة الاسلامية (ابراهيم سلطان) الذي القاه أمام اللجنة السياسية التابعة للأمم المتحدة في 20/4/1949 (مع أن البلاد قد حكمتها دول مختلفة لقرون عديدة الا انها لم تكن اطلاقا جزءا من اثيوبيا ، وإذا تم ضم ارتريا إلى اثيوبيا فأن ذلك سيكون منافيا لمبادئ وميثاق الأمم المتحدة الذي يضمن حق الشعوب في اختيار حكوماتها . أن أرتريا ليس لها مصالح اقتصادية كبيرة مع اثيوبيا ومن الناحية الجغرافية فان ميناءي مصوع وعصب لن يمنحا اثيوبيا منفذا إلى البحر ذي فائدة اقتصادية وذلك بسبب النفقات الباهظة التي يتكلفها النقل عبر الطرق الممتدة اليهما وذلك عكس الحال لو استخدمت اثيوبيا ميناء جيبوتي .
اننا نناشد الأمم المتحدة ان تمنح ارتريا الاستقلال اذ أن ضم ارتريا إلى اثيوبيا سيؤدي إلى صراعات دامية .
اذن فان صوت الارتري قد دوى في اروقة الأمم المتحدة والقضية قد سجلت في محاضر الهيئة الدولية واحتلت مكانا في (أرشيف) الجمعية العامة ــ بقي بعد ذلك ان يواصل الجيل الحالي النضال (لنفض الغبار عن تلك الملفات وان يعيد الهيئة الدولية إلى وعيها وموقفها الطبيعي الى جانب حقوق الشعوب .
رابعاً : بالرغم من أن الحركة الوطنية الارترية لم تنجح في تحقيق شعارها الأساسي (الاستقلال) الا أنها وبعد تطبيق القرار الفدرالي لم تستسلم وناضلت للحفاظ على حقوق الارتريين التي اقرها المشروع الفدرالي . وهكذا دخلت الحركة الوطنية مرحلة جديدة في نضالها ضد اثيوبيا وواجهت قياداتها السجن والاغتيال والتشريد . وعليه فقد بدأت مرحلة جديدة تطلبت وجود اشكال جديدة للنضال ووسائل عمل تتناسب وطبيعة التحدي . لهذا فقد بدأ زعماء الحركة الوطنية بالهجرة الى خارج ارتريا لمواصلة نضالهم ضد السيطرة الاثيوبية وهكذا خرج كل من ولدآب ولد ماريام وابراهيم سلطان وادريس محمد آدم وغيرهم ولجأوا إلى القاهرة حيث بدأوا من هناك نضالهم سواء كان عبر الاذاعات أم في الصحف أو في اجتماعات المهاجرين الارتريين .
خامساً : في اطار تحقيق الوحدة الوطنية كان للحركة الوطنية الارترية مبادرات واساليب اثبتت فاعليتها وعكست وعيا كاملا بالمشاكل التي توجه الشعب الأرتري فبعد فشل جمعية (حب الوطن) التي كانت مبادرة رائعة وسبقا تاريخيا للحركة الوطنية ، اتفق الحزبان (الرابطة الاسلامية والتقدمي الحر) على العمل كل في (قواعده) وكسب مؤيدين من الطائفتين لبرنامجهما (الاستقلال التام) ، وبالفعل كان هذا (التكتيك) أكثر الأمور التي ازعجت اثيوبيا وجرد حزب (الوحدة) من أرضية واسلحته الطائفية التي حاول استخدامها ، وفي مرحلة لاحقة شكل الحزبان (الرابطة الاسلامية والتقدمي الحر) بالإضافة إلى حزب (المثقفين) وبعض الاحزاب التي كانت موالية لإيطاليا ــ شكلوا (الكتلة الاستقلالية) كانت في صيغتها واهدافها وعلاقاتها الداخلية نموذجا للجبهة الوطنية العريضة التي تستند إلى برنامج (حد أدنى) مع احتفاظ كل حزب باستقلاليته التنظيمية .
واستمرت اثيوبيا في الغاء الصيغة الفدرالية حتى أعلنت بصورة رسمية ومن جانب واحد في 14/11/1962م (والغاء الفدرالية وعودة أرتريا الى أمها أثيوبيا) وهكذا اعتبرت أرتريا منذ ذلك التاريخ محافظة من محافظات اثيوبيا.
ولكن الشعب الارتري بالمقابل لم يكن يتفرج ، بل كان يعد العدة للتحدي الكبير وهكذا استبق قرار اثيوبيا وتجاوز سقف الفدرالية المتآكل واعلن في 1/9/1961 بداية معركة تحرير الوطن كله بالسلاح وكانت ….. الثورة .
ملحوظة :
كان من ضمن الاحزاب الوطنية حزب صغير يسمى (ارتريا المستقلة) برئاسة (ولد آب ولد ماريام) .
وقد انضم الى الكتلة الاستقلالية واصبح السيد ولد آب نائباً للسيد ابراهيم سلطان في الكتلة الاستقلالية .
من كتاب “أرتريا بركان القرن الأفريقي”