صراع القوى الكبرى

 

تعتبر الفترة التي تلت هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية ودخول قوات الحلفاء إلى ارتريا وحتى صدور قرار الأمم المتحدة حول مستقبل ارتريا عام 1950 ــ تعتبر تلك الفترة القصيرة في مداها الزمني أهم فترة في تاريخ ارتريا الحديث .

فخلال فترة قصيرة (1941 – 1952 ) شهدت ارتريا المتغيرات والتطورات التالية :

1- دخول القوات البريطانية كممثلة لقوات الحلفاء الى ارتريا وما استتبع ذلك من متغيرات ادارية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تحت الاحتلال البريطاني .

2- اشتداد الصراع الدولي حول ارتريا وبروز القوة الجديدة (الولايات المتحدة) في المسرح العالمي واستخدام كل الوسائل القانونية (الامم المتحدة) وغير القانونية (القوة المسلحة – التآمر) في سبيل السيطرة على الموقع الاستراتيجي الذي تمثله ارتريا بغض النظر عن رغبة أهل البلاد وطموحاتهم في الاستقلال .

3- بروز المطامع الاثيوبية وتحركها بصورة مكشوفة للتدخل في رسم مستقبل ارتريا مستخدمة في ذلك علاقاتها مع الدول الغربية وعملاءها في داخل ارتريا .

4- نشوء الاحزاب السياسية الارترية وتصاعد الحركة الوطنية الارترية في اتجاه الاستقلال مع تنامي الحركة الديمقراطية (نقابات – صحف ) وبدء الصراع الارتري ـــ الاثيوبي في مرحلته الجديدة وبشكله الحالي من جهة و الصراع الارتري ـــ الارتري من جهة ثانية .

5- صدور القرار الفدرالي من الأمم المتحدة والذي كان نتيجة مباشرة للاتفاق الامريكي الاثيوبي وبعد تمهيد بريطاني وكان ذلك القرار بداية مأساة الشعب الارتري بعد الحرب العالمية الثانية .

تلك كانت أهم الملامح لفترة تقرير المصير وهي المرحلة التي كانت آثارها المباشرة وحدد صورة المستقبل الارتري حتى اليوم .

والآن سنتناول بإيجاز مواقف الدول الكبرى والصغرى ايضا خاصة تلك التي كانت لها مصالح في ارتريا وقبل ذلك نسجل الملاحظات التالية:

1- لقد تغيرت مواقف تلك الدول باستمرار . فالمواقف عند بداية مناقشة القضية الارترية في مؤتمر وزراء خارجية دول الحلفاء انعكست تماما بعد عام ثم تغيرت مرة ثانية في بداية مناقشة القضية في الأمم المتحدة

ومرة ثالثة عند التصويت على مشاريع القرارات ، الدولة الوحيدة التي لم (تتزحزح) عن موقفها منذ البداية وحتى النهاية كانت فرنسا ولا يعني ذلك بالضرورة أنها كانت إلى جانب الشعب الارتري !

2- مصالح الدول الأطراف في الصراع هي التي كانت تحدد موقفها أما ((رغبة السكان)) والحقوق المشروعة للأرتريين في تقرير المصير والحرية فتلك كانت مجرد (مبررات) يستخدمها كل طرف لتعزيز موقفه .

3- رغم عدم دقة ونزاهة ممارسات الإدارة البريطانية في تقديم الاحصائيات ورغم عدم تمكن لجان الأمم المتحدة في معظم الأحيان من تنفيذ مهامها بصورة طبيعية نتيجة لعدم الاستقرار والاستفزازات التي كان يقوم بها عملاء اثيوبيا نقول رغم ذلك كله فان جميع الاحصائيات التي قدمت واعتمدت في الأمم المتحدة وتؤكد بأن أغلبية الشعب الأرتري ترفض الانضمام الى اثيوبيا . وليس بالضرورة أن الرافضين لأثيوبيا كانوا يؤيدون استقلال ارتريا ، فمن مؤيدين للاستقلال إلى مطالبين بالوصاية الايطالية الى مطالبين بوصاية الأمم المتحدة .

4- بالإضافة إلى دول الحلفاء (الدول الكبرى) كانت هناك دولتان افريقيتان تتنازعان (ملكية) ارتريا وتدعي كل منهما أنها (فقدت) ارتريا بعد دخول الايطاليين ! الدولتان هما مصر واثيوبيا .

1- فرنسا :

نبدأ بفرنسا لأنها كما ذكرنا كانت الدولة الوحيدة التي حافظت على موقفها تجاه حل القضية الارترية ، فمنذ البداية طرحت فرنسا اقتراحا بوضع ارتريا تحت الوصاية الايطالية بحجة (أن المستعمرات هي أقاليم متأخرة بحاجة إلى مرشد يساعدها على السير في طريق التقدم والتنمية).

2- بريطانيا :

كانت بريطانيا بحكم الواقع تحتل ارتريا وذلك كان يعطيها امتيازا خاصا و(تفوقا) على الآخرين على الأقل (كمرجع) للمعلومات .

بدأت بريطانيا بتبني اقتراح يقضي بتقسيم ارتريا بين السودان واثيوبيا ثم تراجعت بعد ذلك في عام 1948 في الأمم المتحدة وأيدت اقتراحا بوضع ارتريا تحت إدارة اثيوبيا لمدة عشر سنوات كانت بريطانيا تحتل في تلك الفترة أيضا السودان .

3- أمريكا :

كانت بحكم علاقاتها ونفوذها وقوتها أكثر الدول تأثيرا في انجاح وأفشال أي قرار . لقد بدأت باقتراح لجعل ارتريا تحت الوصاية الدولية والجماعية مع اعطاء منفذ لأثيوبيا على البحر(عصب) ومنح ارتريا استقلالها بعد عشر سنوات . ثم تراجعت وأيدت فرنسا بقبول الوصاية الايطالية ومرة ثالثة تراجعت وأيدت التقسيم واخيرا كانت امريكا وراء وضع هندسة وتنفيذ قرار الاتحاد الفدرالي بعد توقيع اتفاقية مع الامبراطور هيلي سيلاسي تحصل بموجبها أمريكا على قاعدة عسكرية في اسمرا وتجعل من اثيوبيا حليفا لها في المنطقة .

4- الاتحاد السوفييتي :

في عام 1950وقف الاتحاد السوفيتي ، انسجاما مع مبادئه الاشتراكية ، مع حق الشعب الارتري في تقرير المصير والحرية ابان نظر القضية الارترية في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة حيث طالب المندوب السوفيتي في خطاب طويل مشهود بحق الشعب الارتري في تقرير المصير والاستقلال وتطبيق هذا الحق بشكل ناجز وممارسته بعيدا عن أيه ضغوط .

واقترح في هذا الصدد منح شعب ارتريا الاستقلال الفوري وخروج القوات البريطانية خلال ثلاثة أشهر مع إعطاء ميناء عصب لأثيوبيا .

5- ايطاليا :

كانت دولة مهزومة والجميع يتصارعون لاقتسام الغنيمة ، ولكنها وان استسلمت عسكريا الا انها لم تتنازل بسهولة عن ارتريا . قاومت ونظمت انصارها في ارتريا (بروايتاليا) يطالبون بالوصاية الايطالية وتحالفت مع فرنسا لتأييد وصايتها على ارتريا وفي كل خطواتها كان أمامها خصم واحد : اثيوبيا . فقد رفضت ايطاليا بشدة مطالب اثيوبيا وقالت في مذكرة ارسلتها إلى الأمم المتحدة عام 1949: (.. ان ارتريا لم تكن في يوم من الأيام ملكا لأثيوبيا ، وانه لم يسكنها أثيوبيون من قبل وان 70 الف ايطالي يقيمون في ارتريا هم الذين جعلوا من المدن الارترية مدنا أوربية …. أن اخضاع هذه المستعمرة لإثيوبيا التي تقل عنها في المدنية واسباب التقدم يعتبر رجوعاً الى الوراء وقضاء على ما قدمته المدنية من أعمال إلى تلك البلاد ) ، وهكذا ظلت ايطاليا في حلبه الصراع تتقدم خطوة وتتراجع اخرى فمن مطالبتها بالوصاية على ارتريا تراجعت وأيدت اقتراح الوصاية الجماعية (بما فيها هي) واخيراً عندما أقفلت أمامها كل الأبواب وادركت انها خسرت المعركة رفعت شعار ((عليّ وعلى أعدائي)) وطالبت باستقلال ارتريا !

6- مصر :

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أهتمت مصر بالمشاركة في تقرير مصير ارتريا وفي هذا الاتجاه قامت بعدة خطوات :

1- في عام 1945 قدمت مذكرة إلى اجتماع مجلس وزراء الدول الخمس في لندن قالت فيها (( …. أن من الواجب أن تذكر بحقوقها في تلك المنطقة وان تشير الى أن من العدل وحسن التصرف ان يلحق بالسودان الذي تديره الآن مصر وبريطانيا ما يكون تكملة طبيعية له من هذه المناطق …)) بمعنى أن مصر ايدت الاقتراح البريطاني بتقسيم ارتريا وليس ذلك غريبا لأن مصر من ناحية واقعية كانت تحت النفوذ البريطاني .

2- في عام 1946 شاركت مصر في مؤتمر الصلح في باريس وقالت : ( أما وقد انتهى سلطان ايطاليا في شرق افريقيا فمن الحق والعدل اعادة (( مصوع)) إلى الدولة التي اغتصبتها ايطاليا منها ) . وهنا نجد مصر تطالب بمصوع فقط .

3- وبعد أن وجد المصريون معارضة اثيوبيا لمطالبتهم حول مصوع قرروا توسيع دائرة الصراع وطالبوا بارتريا كلها وذلك في عام 1947 ودخلوا مع اثيوبيا في مواجهة حادة وحاولوا خلالها ان يصلوا مع الاثيوبيين إلى اتفاق وسط ولكن دون جدى .

1- اثيوبيا :

كانت اثيوبيا أكثر الدول الحاحاً على المطالبة بارتريا وكانت تنطلق من دعاوي مزيفة بأحقيتها في ارتريا وواجهت معارضة شديدة داخليا (الحركة الوطنية) وخارجيا (ايطاليا ومصر) ولكنها اعتمدت في مواجهة تلك التحديات على امريكا في الخارج وعلى الكنيسة وبعض العملاء في الداخل .

بحلول عام 1942م ((أصبح كل قسيس بوقا من ابواق النظام الأثيوبي والاعياد الدينية(( مسقل ــ صليب)) أصبحت مناسبات للتعبير عن الولاء لأثيوبيا والكنائس الكبيرة وحتى الصغيرة أخذت تتزين بالأعلام الاثيوبية والصلوات تتضمن الدعاء لأثيوبيا وامبراطورها …)) .

(من كتاب تريفاسكس الحاكم البريطاني)

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ــ ففي عام 1949م وقبل وصول بعثة الأمم المتحدة أعلنت الكنيسة في صحيفة ((اثيوبيا)) : (( بأن المواطنين المسيحيين من الكتلة الاستقلالية لن تقدم لهم الخدمات من الكنيسة مثل الزواج ودفن الموتى ولن يعمد أطفالهم )) .

وهكذا أصبح حزب ((الوحدة)) يخضع لإشراف اثيوبيا مباشرة عن طريق الكولونيل ((نيجلا سلاسي)) المقيم في اسمرا والذي لم يقتنع بعمل الكنسية الروحي بل لجأ إلى وسائل أكثر ((عملية)) مثل الاغتيالات ورمي القنابل والمتفجرات لنسف قيادات ومقرات الحركة الوطنية .

فبعد انتهاء الدورة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949 والتي تقرر فيها استقلال ليبيا والصومال أصيب دعاة الاتحاد مع اثيوبيا بانزعاج شديد وقلق من امكانية حل القضية الارترية على نفس الاسس ، وهكذا بدأت حملة منظمة من الارهاب ضد الكتلة الاستقلالية وفي الفترة من أكتوبر ــ تشرين الأول ــ 1949 حتى وصول لجنة الأمم المتحدة في فبراير ــ شباط ــ 1950 تم اغتيال ثمانية عشر شخصاً من المعارضين للوحدة مع اثيوبيا وشنت عدة هجمات على مقاهي ودور الايطاليين بالإضافة إلى قرية أحد الرؤساء في (أكلي قوازي) من معارضي اثيوبيا واثناء وصول لجنه الأمم المتحدة أندلع قتال عنيف في شوارع اسمرا بين مؤيدي ومعارضي الوحدة مع اثيوبيا ، ذهب ضحيته العشرات من المواطنين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Directory Wizard powered by www.polldirectory.net

Watch Dragon ball super